رسالة موسكو
فى مثل هذا اليوم الثامن من ديسمبر من عام 1991، اجتمع ثلاثة من رؤساء جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق فى مجاهل غابات بيلاروس يا (قبل أن تتحول إلى بيلاروس )، لتدبر أمر التخلص من ميخائيل جورباتشوف على حساب التضحية ب الاتحاد السوفيتى ، سعيا وراء «استقلال» زائف آل بالإمبراطورية السوفيتية إلى ما آلت إليه. وفى ذلك اليوم «غير المأسوف عليه» اختلطت المأساة بالملهاة، على نحو تظل مفرداته شاهدا على أن للخيانة وجوها متباينة، ومنها السعى نحو الاستقلال والسيادة، الذى منهما ما يقود إلى التمرغ فى أحضان التبعية، والوقوف كما المتسول أمام أبواب الصندوق الدولى، انتظارا لما قد يمن به تحت شعارات مختلفة.
ذلك ما خلص إليه بوريس يلتسين ورفاقه من أوكرانيا و بيلاروس يا، والكثير من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق. وكان رؤساء روسيا وأوكرانيا و بيلاروس يا، قد اتفقوا حول لقاء ثلاثى يجمعهم فى بيلافجسكويه بوشا، بين أحضان غابات بيلاروس يا، لتدبر أمر انفصال جمهورياتهم عن الاتحاد السوفيتى السابق. كان لكل من الرؤساء الثلاثة حساباته التى اجتمعت جميعها حول ضرورة التخلص من جورباتشوف ، قبل رغبتهم فى الانفراد بجمهورياتهم تحت ستار الاستقلال والانفصال، الذى كانوا بالفعل أعلنوه بعد فشل انقلاب أغسطس من نفس العام، وإن كان يلتسين سبقهم بأكثر من عام كامل، حين أقر مجلس السوفيت الأعلى لروسيا الاتحادية، مرسوم سيادة واستقلال روسيا فى 12 يونيو 1990، ولم يتساءل أحد عمن استقلت روسيا الاتحادية فى ذلك الحين، ولماذا إذن تَوَاصَلَ بقاؤها ضمن الاتحاد السوفيتى منذ ذلك التاريخ؟ وكيف كان لها التصويت فى 17 مارس 1991 على بقاء الاتحاد السوفيتى دولة اتحادية فى إطار الاستفتاء الشعبى الذى اسفرت نتيجته عن موافقة ما يزيد على 75% على بقاء الاتحاد السوفيتي؟
ومن هنا نقول ان لكل من هؤلاء «الفرسان» الثلاثة كانت «أجندته» الخاصة التى أرادوا تنفيذها بوازع ذى صلة بدوائر أجنبية سرعان ما ظهرت هناك فور الإعلان عن سقوط الاتحاد السوفيتى ، بما نجم عن ذلك من تبعات سددت روسيا فواتيرها فى سبعينيات القرن الماضى، بينما غرقت أوكرانيا فيما هى غارقة فيه حتى اليوم من كوارث مالية ومشاكل انفصالية، فضلا عن ضياع القرم التى تحولت إلى الانضمام إلى روسيا التى وجدت السلوى والملاذ منذ مطلع القرن الحالى.
وكانت المصادر الروسية كشفت تباعا من أن «المحاولات التى استهدفت الإطاحة ب جورباتشوف كانت قبل انقلاب أغسطس كثيرة من جانب رفاقه فى المكتب السياسى واللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى منذ إعلانه عن سياسات البيريسترويكا فى عام 1985»، كما ذكر اندريه جراتشوف آخر المتحدثين الرسميين باسم جورباتشوف فى مقدمة كتابه «الانقلاب». وأضاف جراتشوف أن الأمر لم يكن فى حاجة إلى الإطاحة بالدولة، من أجل التخلص من فكرة طرحها جورباتشوف . وقال أنه «كان يكفى آنذاك الإعلان عن اقتراع سرى فى النسق الأعلى للقيادة الحزبية لوقف عملية الإصلاحات دون الحاجة إلى دبابات». ومن هذا المنظور ومن واقع شاهد عيان نقول إن القوى المحافظة تحولت إلى انتهاج أسلوب «انقلاب أغسطس» تحت تأثير تنامى نشاط القوى القومية الانفصالية التى حظيت داخل موسكو بدعم أبرز ممثليها وعلى رأسهم بوريس يلتسين بعد نجاح هذه القوى فى تشكيل ما يسمى بـ«مجموعة النواب الإقليمية» التى سبق وقادت عملية إعلان استقلال وسيادة روسيا قبل انهيار الاتحاد السوفيتى بوقت طويل. ونذكر أيضا أن هذه المجموعة التى قادت حملة تأييد القوى الانفصالية فى جمهوريات البلطيق كانت أول من وجه سهامه ضد جورباتشوف فى محاولة للتخلص منه لتعود فى أغسطس 1991 الى محاولة أداء دور المنقذ! ولعل أحدا لا يستطيع اليوم إنكار أن العلاقات الشخصية التى احتدم أوارها بين جورباتشوف و بوريس يلتسين منذ أطاح الأول بالثانى من عضوية المكتب السياسى، كانت فى مقدمة أسباب تداعى أركان الدولة ثم انهيارها.
وننقل عن الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين ما قاله حول خلافاته مع غريمه ميخائيل جورباتشوف فى كتابه «ذكريات رئيس»: «أنه بات واضحا أن البيريسترويكا يريدها جورباتشوف ليس من أجل إعادة البناء من حيث الجوهر، بل من أجل الحفاظ على السلطة المركزية وعدم منح الجمهوريات سلطاتها المستقلة وروسيا بالدرجة الأولى. إننى أرفض مواقف الرئيس وسياساته. إننى اطالب باستقالته فورا». ونذكر أيضا ما قاله يلتسين فى حديث صحفى نُشر فى 14 فبراير 1991 أى قبل موعد انقلاب أغسطس 1991 الذى استهدف تنحية جورباتشوف ، من جانب عدد من أبرز القيادات السوفيتية من ذوى الميول المحافظة ومنهم نائب الرئيس ووزيرا الدفاع والداخلية ورؤساء أجهزة الأمن والمخابرات والبرلمان، بقرابة نصف العام، قال فيه « إننا لن نستطيع على ما يبدو الدفاع عن سيادتنا بدون تشكيل جيش لروسيا» وهو التصريح الذى رد عليه جورباتشوف لاحقا، فى كتابه «ميخائيل جورباتشوف … الحياة والإصلاحات» بقوله إن ذلك كان يعنى أن الجيش الروسى يصبح مدعوا إلى الدفاع عن استقلال روسيا ضد القوات المسلحة الاتحادية التى يشكل الروس فيها نسبة 80% من جنودها».
ولا يفوتنى بهذا الصدد الاستشهاد بما قاله ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا خلال أول لقاء معه فى مكتبه فى كييف فى عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفيتى تعليقا على خلافاته مع جورباتشوف ، ودور يلتسين فى انهيار الاتحاد السوفيتى . قال كرافتشوك أن يلتسين زاره فى كييف عقب مداولات صياغة المعاهدة الاتحادية التى كان من المفروض أن يوقعها رؤساء الجمهوريات السوفيتية ،عدا جمهوريات البلطيق وجورجيا ومولدوفا وأرمينيا. قال يلتسين إنه مكلف من جانب جورباتشوف بأن يعرض عليه، أى على كرافتشوك إدخال ما يراه مناسبا من تعديلات حتى يتسنى طرح المعاهدة للتوقيع. وكان ذلك قبل سفر جورباتشوف فى إجازته السنوية فى أغسطس 1991. وقال كرافتشوك إنه رد على يلتسين بقوله: «وما رأيك أنت فى هذا؟ ». وحين أعلنه يلتسين بأنه سيوافق على ما يعلنه كرافتشوك من مواقف، قال الرئيس الأوكرانى إنه لن يوقع على أى معاهدات اتحادية وهو ما عقًب عليه يلتسين بقوله:« وأنا أيضا لن أوقع مثل هذه المعاهدة». ومن هنا ولدت فكرة اللقاء الرباعى بين رؤساء روسيا وأوكرانيا و بيلاروس يا وقزخستان حول الخروج من الاتحاد السوفيتى ، وهى الفكرة التى تراجع عنها رئيس قزخستان نورسلطان نزاربايف ونفذها رؤساء الجمهوريات الأخرى الثلاث بتوقيع معاهدة «بيلوفيجسكويه بوشا » فى 8 ديسمبر 1991.
أما عن تفاصيل ما يسمونها بمؤامرة «بيلاوفجسكويه بوشا» وتوقيع اتفاقيات انفصال الجمهوريات الثلاث عن الاتحاد السوفيتى ، قال جورباتشوف إنه علم بنبأ الزيارة المرتقبة ليلتسين إلى بيلاروس ، ما دفعه إلى سؤاله عن سببها وهو ما رد عليه يلتسين بقوله إنه «يريد مناقشة بعض الاتفاقيات الثنائية مع ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس برلمان بيلاروس يا، وأنهما وجها الدعوة إلى ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا للتشاور». واستطرد جورباتشوف ليقول إنه طلب من يلتسين التمسك بصيغة المعاهدة الاتحادية التى اتفقوا حولها فى نوفواوجاريوفو (ضواحى موسكو)، وانطلاقا من المواقف السابقة للرئيس الروسى والمؤيدة للصياغة الجديدة للمعاهدة الاتحادية إبلاغ الرئيس الأوكرانى بموافقته مسبقا على كل ملاحظاته على هذه المعاهدة شريطة إعلانه الموافقة عليها. وأضاف جورباتشوف أن يلتسين سأله عما يمكن أن يفعله من أجل إقناع أوكرانيا بالانضمام إلى المعاهدة الاتحادية، وهو ما أجاب عنه بضرورة أن يبدأ يلتسين رئيس روسيا بتوقيعها. عندئذ ستوقعها أوكرانيا طالما أنه – أى يلتسين- أعلن فى أكثر من مناسبة عن تأييده لبقاء الاتحاد السوفيتى دولة موحدة بما يتفق مع نتيجة استفتاء 17 مارس 1991 . واختتم جورباتشوف حديثه قائلا بنبرة تتسم بالمرارة: «إنه كان يخدعني».
ومن جانبه يذكر بوريس يلتسين فى مذكراته التى كان اختار لها عنوان «ذكريات رئيس»، ان الحيرة انتابت أعضاء الوفدين الروسى والأوكرانى خلال وجودهما فى بيلافجسكويه بوشا فى بيلاروس يا، بسبب صعوبة إيجاد التبرير القانونى لمشروعية الانفصال. واعترف الرئيسان بأن سيرجى شاخراى مساعد الرئيس يلتسين للشئون القانونية كان صاحب فكرة «الصياغة القانونية» التى تقول بأحقية الجمهوريات السلافية الثلاث فى المبادرة بإعلان خروجها من هذا الاتحاد بوصفها الدول التى كانت بادرا بالإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفيتى فى عام 1922. وقال إن شاخراى استغرق مع رفاقه وقتا طويلا للخروج بالصياغة النهائية التى استقروا عليها ليعهدوا إلى يجور جايدار القائم بأعمال رئيس الحكومة الروسية بإعادة كتابتها بخط أفضل من خط شاخراى، وتسليمها إلى السكرتيرة لطباعتها على الآلة الكاتبة. ولما كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير، فقد عهدوا إلى اندريه كوزيريف وزير خارجية يلتسين آنذاك، والذى انتقل إلى الإقامة فى الولايات المتحدة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، بالقيام بهذه المهمة. ولم يكلف كوزيريف نفسه عناء التأكيد على السكرتيرة بالاهتمام بهذه المهمة، مكتفيا بالدفع بالنص إلى أسفل باب غرفة السكرتيرة، حرصا منه على عدم إزعاجها فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، كما قال فيما بعد. لكن ما أن حلً الصباح، واجتمعت «الأطراف المعنية»، وطلبت الاطلاع على ما كتبته السكرتيرة، حتى اتضح لهم أن كوزيريف أخطأ رقم الغرفة، ودفع بمثل هذه الوثيقة بالغة الأهمية، إلى غرفة أخرى، وهو ما كان كافيا للإطاحة برؤساء الجمهوريات الثلاث ومن معهم إلى غياهب السجون فى حينه فى حال وقوع مثل هذه الوثيقة فى حوزة الأجهزة الامنية. وذلك ما كان مثار سخرية ودهشة الجميع. ولم تتوقف سلسلة «المضحكات المبكيات» فى هذه الاحداث عند هذا الحد، حيث تصاعدت وتشابكت وبلغت حد إصابة الرؤساء الثلاثة بالحيرة، تجاه عمن يعهدون إليه بعد توقيع هذه الوثيقة التاريخية إبلاغ كل من الرئيسين السوفيتى جورباتشوف ، والأمريكى جورج بوش الأب بما جرى الاتفاق حوله. وأصاب الارتباك كلا من يلتسين وكرافتشوك تجاه اختيار الرئيس الذى يمكن أن يتولى مهمة إبلاغ الرئيس بوش الأب بقرارهم، وهو ما قام به يلتسين بعد تردد لم يدم طويلا، بينما تولى مجلس رئيس السوفيت الأعلى ل بيلاروس يا شوشكيفيتش مهمة إبلاغ الرئيس السوفيتى جورباتشوف بنتائج ذلك اللقاء التاريخى، الأمر الذى طَيًر صواب جورباتشوف ليطلق صيحته المدوية: «العار كل العار. أن يعلم الرئيس الأمريكى بقرار حل الاتحاد السوفيتى قبل رئيس هذا الاتحاد».
وتتوالى مشاهد المأساة ليجتمع رؤساء من بقى من جمهوريات الاتحاد السوفيتى وكانوا تسعة فى المآتا العاصمة القديمة لقزخستان فى 21 ديسمبر للاتفاق حول إنهاء وجود الاتحاد السوفيتى وإحالة رئيسه إلى التقاعد، وهو الاجتماع الذى رفض جورباتشوف حضوره. فى هذا الاجتماع أقر المجتمعون معاشا تقاعديا ل جورباتشوف شاءت سخرية الأقدار أن تتقلص قيمته الفعلية إلى ما يعادل أربعة دولارات فى الشهر، بعد تعويم قيمة العملة الروسية خلال السنوات الأولى التى أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي!
ومع الذكريات نمضى لنشير إلى الخامس والعشرين من ديسمبر 1991، وهو التاريخ الذى تلا فيه جورباتشوف مرسوم استقالته الرسمية من منصبه كرئيس للاتحاد السوفيتى فى لقاء لم يحضره من الصحفيين الأجانب المعتمدين فى موسكو سوى ستيف هيرست مراسل قناة «سى ان ان» الأمريكية. وكان جورباتشوف أصر على أن يكون توقيعه على المرسوم على الهواء مباشرة. غير أنه وحين همً بالتوقيع لم يطاوعه القلم الذى وإمعانا فى سخرية الأقدار رفض الامتثال لقراره، ما جعل ستيف يسارع بمناولته قلمه بما كان يعنى أن وثيقة الاتحاد السوفيتى .aspx’> نهاية الاتحاد السوفيتى سُجلت بمداد أمريكي!!!. وما أن فرغ جورباتشوف من كلمته وعلت موسيقى السلام الوطنى السوفيتى للمرة الاخيرة فى التاريخ، حتى هرع حرس الكرملين إلى إنزال علم الاتحاد السوفيتى الأحمر ذى المنجل والمطرقة ليرفعوا مكانه علم روسيا القديم بألوانه الثلاثة «الابيض والأزرق والأحمر»!!. وتعود سخريات القدر لترفض التوقف عن المضى فى طريق «المضحكات المبكيات» ليرتفع العلم الروسى «الجديد القديم» بلونه الأحمر معتليا اللونين الأبيض والأزرق، وهو ما اضطرهم لاحقا إلى إنزاله لرفعه ثانية فى وضعه الصحيح «الابيض فى الجزء الأعلى من العلم ثم الأزرق ثم الأحمر»!!.
نقلا عن صحيفة الأهرام