كتب: عبد الرحمن عثمان
يحتفل المصريون هذا العام بعيد “شم النسيم” لأول مرة داخل جدران منازلهم بدلا من في الحدائق العامة والمتنزهات . فهو يأتي في 2020 وسط أجواء غير مواتية بسبب تفشي “وباء “كورونا” في أنحاء العالم. ونظرا للخطر الشديد الذي يمكن أن يلاحق أي شخص من العدوى بالمرض القاتل في حالة التواجد في جماعات. ولذا لم تجد الحكومة المصرية وقبلها حكومات العالم أجمع من حظر أي تجمعات بشرية ، وإغلاق كافة الحدائق والمتنزهات أماكن الترفيه والمطاعم التي كان أبناء آدم يلتقون فيها ويلتفون حول الأطعمة المميزة لهذا اليوم. ولكن رغم تحذير وزارة الصحة وكافة المؤسسات الطبية المصرية من الخطر الذي يتهدد من يأكل الأسماك المملحة مثل الفسيخ والرنجة والسردين المملح، فقد كان هناك تزاحما وإقبالا [ وإن قل عن الأعوام السابقة] على محلات بيع هذه الأطعمة والمأكولات . حيث يرى البعض أنهم لا يمكنهم مقاومة الإحتفال بـ شم النسيم ولو من خلف جدران مغلقة بأكل ما إعتادوا عليه.
ومن خلالخلال هذا البحث سنعرض لكم تاريخ وخصائص “عيد شم النسيم.
شم النسيم هو أقدم احتفال شعبي عرفه التاريخ وترجع بداية الاحتفال به إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام فجذوره فرعونية وامتد عبر العصور وأضيفت له طقوس ودخلته معتقدات أخرى .
شم النسيم عند الفراعنه
يرى بعض المؤرخين أن بداية الاحتفال بشم النسيم ترجع إلى عصر ما قبل الأسرات ولم يكن مجرد احتفال ترفيهى يهتم فيه القدماء بالخروج الى الحدائق وتناول المأكولات المرتبطة بهذه المناسبة والتي يرمز كل منها الى اعتقاد معين لديهم ، بل هو احتفال ديني وروحي أيضا حيث كانوا يتصورون كما ورد فى بردياتهم المقدسة أن ذلك اليوم هو أول الزمان أو بدء خلق الكون ،وأطلقوا عليه الكلمة الفرعونية “شمو” اى عيد الخلق أو بعث الحياة .
وتعرض الاسم للتحريف على مر العصور ،وأضيفت اليه كلمة “النسيم” لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو وطيب النسيم ، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج الى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة .
شم النسيم فى اليهودية والمسيحية
نقل بني إسرائيل عن المصريين عيد شم النسيم عندما خرجوا من مصر فى عهد نبي الله موسى عليه السلام واتفق يوم خروجهم مع موعد احتفال المصريين بعيدهم وأشارت كثير من المراجع التاريخية الى أن بني إسرائيل اختاروا ذلك اليوم بالذات للخروج من مصر وقت انشغال المصريين بأعيادهم ليتمكنوا من الهرب مع ما سلبوه من ذهب المصريين وثرواتهم .
وذكرت الدراسات العلمية التي تناولت التاريخ الفرعوني ان بني إسرائيل احتفلوا بالعيد بعد خروجهم واطلقوا عليه اسم “عيد الفصح” والفصح كلمة عبرية معناها الخروج او العبور ،كما اعتبروا ذلك اليوم “يوم بدء الخلق عند المصريين” رأسا لسنتهم الدينية العبرية تيمنا بنجاتهم او بدء حياتهم الجديدة
ثم انتقل عيد الفصح بعد ذلك الى المسيحية لموافقته مع موعد عيد القيامة والذي يأتى دائما يوم الاحد مصادفة ..ولما دخلت المسيحية مصر اصبح عيدهم يُلازِم عيد المصريين القدماء “عيد الربيع” ويقع دائما يوم الاثنين اى اليوم التالى لعيد القيامة .
شم النسيم فى العصر الإسلامي
فى العصر الإسلامي خاصة فترة الحكم الفاطمي اتخذ الاحتفال شكلا اخر حيث يخرج موكب الخليفة ومعه كبار رجال الدولة ويتولى تنظيم هذا الإحتفال داعي الدعاة الفاطمي بمعاونة اثنى عشر نقيبا .
اطعمة شم النسيم الخاصة
لشم النسيم أطعمته التقليدية الخاصة وما ارتبط بها من عادات وتقاليد أصبحت جزءا من الاحتفال بالعيد نفسه والتي انتقلت من المصريين القدماء عبر العصور لتفرض نفسها على أعياد الربيع فى أنحاء العالم القديم والحديث حيث تشمل قائمة الأطعمة المميزة لمائدة شم النسيم – البيض والفسيخ والبصل والخس والملانة .
والبيض بدأ ظهوره على مائدة اعياد الربيع مع بداية احتفال المصريين بعيد شم النسيم وهو عند المصريين القدماء يرمز الى خلق الحياة بخروج الحياة من البيض فالبيض يرمز إلى خلق الحياة من الجماد.
وكانوا ينقشون عليه الدعوات والأمنيات بألوان مستخلصة من الطبيعة، ويجمعونه فى سلال من زعف النخيل الأخضر ويتركونه فى شرفات المنازل او يتم تعليقها على فروع الاشجار بالحدائق حتى يتلقى بركات نور الاله عند شروقه فيحقق دعواتهم .
وقد أخذ العالم عن مصر القديمة أكل البيض فى شم النسيم فصار البيض الملون هو رمز عيد الفصح الذي يتزامن مع شم النسيم ..وقد اشتهر عن الملكة مارى ملكة اسكتلندا انها كانت ترسل الى اصدقائها فى عيد الفصح البيض المصنوع من الحلوى .
اما الملكة فكتوريا فكانت ترسل لاصدقائها بيضا حقيقيا مسلوقا وملونا ومنقوشا عليه بعض الاقوال المأثورة التي كانت تهواها .
وقيل أن أشهر أنواع البيض بيضة هنرى الثانى التي بعث بها الى “ديانادى بواتييه” وكانت علبة صدف على شكل بيضة بها عقد من اللؤلؤ الثمين ،كما بعث لويس الرابع عشر للآنسة “دى لا فاليير” علبة بشكل بيضة ضمنها قطعة خشب من الخشب الذي صلب عليه المسيح بحسب العقيدة المسيحية .. ولويس الخامس عشر أهدى خطيبته “مدام دى بارى” بيضة حقيقية من بيض الدجاج مكسوة بطبقة رقيقة من الذهب.
كذلك كان البصل من بين الأطعمة التي حرص المصريون القدماء على تناولها في تلك المناسبة، وقد ارتبط عندهم بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض، فكانوا يعلقون البصل في المنازل وعلى الشرفات، كما كانوا يعلقونه حول رقابهم، ويضعونه تحت الوسائد، وما زالت تلك العادة منتشرة بين كثير من المصريين حتى اليوم.
وكان الخَسُّ من النباتات المفضلة في ذلك اليوم، وقد عُرِف منذ عصر الأسرة الرابعة، وكان يُسَمَّى بالهيروغليفية “عب”، واعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة، فنقشوا صورته تحت أقدام إله التناسل عندهم.
وقد لفت ذلك أنظار بعض علماء السويد في العصر الحديث فقاموا بإجراء التجارب والدراسات على نبات الخس، وكشفت تلك البحوث والدراسات عن حقيقة عجيبة، فقد ثبت لهم أن ثمة علاقة وثيقة بين الخس والخصوبة، واكتشفوا أن زيت الخس يزيد في القوة الجنسية لاحتوائه على فيتامين (هـ) بالإضافة إلى بعض هرمونات التناسل.
أما الفسيخ أو “السمك المملح” فقد ظهر بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بالعيد في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ.
ومازال شم النسيم عيدا يوحد المصريين فى الاحتفال به ومظاهره المختلفة التي لم يتخلى عنها المصريون وغيرهم من الشعوب .