خمسون عامًا مرّت، لكن الذكرى لا تهرم، والأثر لا يُمحى، والصوت لا يزال يملأ الآفاق كأنه تحدٍ للزمن. كان ذلك اليوم، الثالث من فبراير عام ١٩٧٥، يومًا غير عادي في تاريخ الفن العربي، بل في وجدان الأمة بأسرها. أم كلثوم، كوكب الشرق، سيّدة الغناء العربي، رحلت، لكن صوتها لم يرحل، ونورها لم يخفت، وأغانيها لم تفقد قدرتها على إحياء القلوب وإشعال الأحاسيس في كل مرة تُسمع فيها.
أم كلثوم… حين صار الصوت أسطورة
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة، بل كانت ظاهرة فريدة، حالة نادرة لا تتكرر، مدرسة قائمة بذاتها في الفن، بل فلسفة متكاملة في الأداء. كانت تغني كما لو أن الزمن يتوقف ليستمع، وكانت الحروف في حنجرتها تكتسب معاني جديدة لم يعرفها قاموس اللغة من قبل. مدّت حرفًا فصار نغمة، وأطالت كلمةً فصارت مشهدًا مرئيًا في الخيال، وصنعت من الغناء تجربة لا تشبه غيرها.

لم يكن صوتها وحده هو سر عظمتها، بل حضورها، هيبتها، ذكاؤها الفني الذي جعلها تعرف كيف تختار الكلمات والألحان، وكيف تقف على المسرح كأنها ملكة على عرش الطرب. لم يكن الجمهور يسمعها فقط، بل كان يعيش معها كل حرف، يتنقل بين طبقات صوتها كما لو كان يتجول في عالمٍ سحري لا يريد أن يغادره.
أم كلثوم… صوت مصر ووجدان العرب
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة تغني للحب والشوق والحنين، بل كانت أيضًا صوت مصر في الأوقات الصعبة. حينما غنت “والله زمان يا سلاحي”، لم تكن مجرد أغنية وطنية، بل كانت نشيدًا للأمة، حتى أصبحت النشيد الوطني لمصر لسنوات. وفي الهزيمة، كانت أغانيها بلسمًا للجراح، وفي النصر، كانت صدى الفخر الذي يملأ السماء.
لقد حملت أم كلثوم همّ العرب جميعًا، غنّت للقضية الفلسطينية، دعمت المجهود الحربي، وقفت على المسارح في باريس وبغداد ودمشق وبيروت، لم تكن فقط أيقونة للطرب، بل كانت رمزًا للقوة والعزة والفخر.
لحظة الرحيل… يومٌ لا يُنسى
في مثل هذا اليوم، استيقظت مصر والعالم العربي على نبأ لم يكن أحد يريد سماعه. رحلت أم كلثوم، وأسدل الستار على رحلة فنية استمرت لأكثر من نصف قرن. خرجت الملايين في جنازة مهيبة لم تعرفها مصر إلا للقادة العظام، تدفقت الحشود كأنها لا تصدق أن من كانت تملأ حياتها بالغناء قد سكتت للأبد. لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد غابت بالجسد، وبقي الصوت.
أم كلثوم… الغائبة الحاضرة
نصف قرن مرّ، ولا تزال “إنت عمري” تُغنّى وكأنها وُلدت اليوم، ولا تزال “الأطلال” توقظ الجراح، ولا تزال “لسه فاكر” تعيد الذكريات الحيّة لمن ظنوا أنهم نسوا. إنها ليست مجرد أغنيات، بل محطات في حياة كل مستمع، كأنها وجدت لتكون جزءًا من وجداننا، كأنها لم تغنِ إلا لنا نحن، في كل زمن، وفي كل وقت.
في مثل هذا اليوم، رحلت أم كلثوم، لكنها لم تمت، لأنها ببساطة لم تكن مجرد إنسان، بل كانت أسطورة، والأساطير لا تموت، بل تبقى ما بقي الزمن.