إعداد: عبد الرحمن عثمان
في خطوة جديدة على طريق انسحاب روسيا من كل الاتفاقيات الدولية السابقة، بشأن الحد من التسلح وضمان التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العاشر من مايو 2023، مرسومًا بانسحاب روسيا من معاهدة الأسلحة والقوات التقليدية في أوروبا. وفي 16 مايو 2023 وافق نواب مجلس الدوما الروسي بالإجماع على الوثيقة التي تقدم بها الرئيس “فلاديمير بوتين” وتقضي بانسحاب روسيا من معاهدة الأسلحة التقليدية.
ويرى كثير من الخبراء أن الخطوة الروسية تأخرت كثيرا فهذه المعاهدة لم تكن لها فائدة فعلية لروسيا ، بل ساهمت في توسع حلف الناتو شرقا في أوروبا على حساب الأمن القومي الروسي، وأصبح بذلك في حالة تشبه الحصار للحدود الروسية. واستغل الناتو المعاهدة لمراقبة التسلح الروسي إن معاهدة الأسلحة والقوات التقليدية كانت بالنسبة لروسيا “مولود ميت”. .
ما هي معاهدة الأسلحة والقوات التقليدية
في أواخر أيام الإتحاد السوفييتي السابق في عام 1990، وقّع ممثلو 16 دولة من دول حلف الأطلسي (بلجيكا، كندا، الدنمارك، فرنسا، ألمانيا، اليونان، أيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورج، هولندا، النرويج، البرتغال، إسبانيا، تركيا، بريطانيا، والولايات المتحدة)، بصفتهم مجموعة واحدة، مع سبع دول كانت منضوية في منظمة حلف وارسو (الاتحاد السوفييتي، بلغاريا، رومانيا، المجر، بولندا، ألبانيا، تشيكوسلوفاكيا) بصفتهم مجموعة ثانية، على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا.
وحينها سُمح لكلتا المجموعتين بالحصول على عدد متساوٍ من الأسلحة التقليدية والمعدات العسكرية. وتضمنت الاتفاقية معايير نشر الأسلحة التقليدية على أساس التوازن الذي كان قائمًا في حينه بين الأطلسي وحلف وارسو.
جدير بالذكر أن حلف وارسو لم يعد قائمًا ، واقعيا، منذ عام 1991، بعدما انتهت فاعليته بتفكك الاتحاد السوفييتي، ثم تم حل الحلف نهائيا في 1 يوليو 1991؛ وانقسمت دوله إلى فئتين: الفئة الأولى انضمت إلى حلف الأطلسي بموجات توسع الحلف منذ عام 1997، ومنها بولندا والمجر وبلغاريا ورومانيا ودول البلطيق (إستونيا وليتوانيا ولاتفيا) التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي.
وحددت المعاهدة الحدود القصوى لخمس فئات من الأسلحة التقليدية، وهي المركبات القتالية والمدرعة والمدفعية والطائرات المقاتلة والمروحيات القتالية.
وبحسب المعاهدة، فقد سُمح للمجموعتين بنشر 20 ألف دبابة و30 ألف عربة مدرعة و20 ألف وحدة مدفعية و6800 طائرة مقاتلة وألفي مروحية هجومية، لكل منهما. ويومها رفضت لاتفيا وليتوانيا وإستونيا الانضمام إلى اتفاقية باريس عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
تعديلات إسطنبول
بعد ذلك، وفي أثناء قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1999 التي عقدت في إسطنبول التركية، تم تبنّي تعديلات عدة بطلب من روسيا، وراعت انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وتضمنت تحديد كمية المعدات العسكرية، بما في ذلك الأجنبية، التي يمكن للدول ذات السيادة نشرها على أراضيها.
وفي موازاة ذلك، تم اعتماد الوثيقة الختامية للمفاوضات حول تعديل معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا. وتعهدت دول الأطلسي بعدم نشر قوات قتالية كبيرة، مثل سلاح الطيران على أراضي الدول الأعضاء الجدد، كما تم تخفيض الحد الأقصى للأسلحة لدى المجر وبولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك.
ومع ذلك، لم تدخل المعاهدة المعدلة حيز التنفيذ بسبب عدم توقيع دول حلف “الناتو” عليها، فيما واصل حلف “الناتو” التوسع شرقا، ما تسبب في اختلال موازين القوى.
وتقدم الجانب الروسي بطلب لتعديل المعاهدة في اجتماع عام 2007 الذي دعت له موسكو، ولكن تم رفض الطلب من قبل دول حلف “الناتو”. وفي نوفمبر 2011، أعلنت الولايات المتحدة من جانبها عن “تعليق تنفيذ بعض التزاماتها أمام روسيا”. وبعد محاولات عديدة لإنقاذ المعاهدة، أعلنت روسيا التعليق التام لمشاركتها في المعاهدة اعتبارًا من 11 مارس 2015، والآن تنسحب روسيا منها، ففي خطوة جديدة على طريق انسحاب روسيا من كل الاتفاقيات الدولية السابقة، بشأن الحد من التسلح وضمان التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العاشر من مايو 2023، مرسومًا بذلك. وفي 16 مايو 2023 وافق نواب مجلس الدوما الروسي بالإجماع على الوثيقة التي تقدم بها الرئيس “فلاديمير بوتين” وتقضي بانسحاب روسيا من معاهدة الأسلحة التقليدية.
لماذا لجأت روسيا للقرار؟
وفق الخبراء فإن تلك المعاهدة، التي وضعت أثناء وجود حلف وارسو “عفا عليها الزمن ولم تعد متوافقة مع الواقع الحالي خاصة بعد الحرب الأوكرانية”.
قال الخبير العسكري الروسي فلاديمير إيجور، إن موسكو أبدت أكثر من مرة رغبتها لإجراء مفاوضات لصياغة اتفاقية جديدة للرقابة على الأسلحة التقليدية، لكنها لم ترَ أي خطوات مماثلة من قبل الغرب.
· رفض الناتو التخلي عن التوسع العسكري بأوروبا وانسحاب واشنطن من عدد من الاتفاقات المهمة في مجال الحد من الأسلحة والرقابة عليها، وصولا إلى الدعم اللامتناهي لأوكرانيا ضد روسيا، كل ذلك أدى لتدهور العلاقات.
· ما يحدث بشأن أزمة أوكرانيا حرب بالوكالة يخوضها الغرب ضد روسيا، لا سيما في ظل نشر قوات إضافية للحلف في أوروبا وقرب الحدود الروسية وضخ كميات هائلة من الأسلحة إلى أوكرانيا، ما دفع موسكو لنبذ الاتفاقات السابقة التي لم تعد تخدم المصالح الأمنية للدولة الروسية.
أما الخبير العسكري الروسي سيرغي ليونكوف، فيقول إن الغرب وتدخله في حرب أوكرانيا بشكل مباشر ومحاولة استهداف الرئيس الروسي بمسيرتين فوق الكرملين أخل بكل الاتفاقيات الموقعة مع موسكو، مشيرا إلى أن “الانسحاب قد يتيح لروسيا نشر قوات أكبر بشأن أوكرانيا وتعزيز وجودها العسكري في بعض بلدان أوروبا الشرقية ردا على توسع الناتو”.
أضاف: “الاتفاقية فقدت الصلة بالواقع، وهي ولدت ميتة، وقيام الحلف بتعزيز الجبهة الشرقية أدى إلى تدهور الوضع الأمني بالمنطقة بشكل خطير”.
وفق ليونكوف فإن الناتو:
· يمارس نهجا لتقويض روسيا وتغيير موازين القوى في أوروبا لصالحه.
· الولايات المتحدة والناتو يهدفان إلى زيادة وجودهما ونشاطهما العسكري بأوروبا الشرقية.
· الحِلْف هدفه من الاتفاقيات الحصول على معلومات أكثر حول الجيش الروسي.
ما تأثير الخطوة الروسية؟
وتنذر الخطوة الروسية بإطلاق سباق تسلح جديد ورفع مستوى التوتر في نقاط الاحتكاك بين روسيا والأطلسي، خصوصًا في منطقة بحر البلطيق والقطب الشمالي، حيث يمكن أن تنشر روسيا صواريخ هجومية في كالينينجراد ومورمانسك، وكذلك زيادة نشر قواتها في حليفتها بيلاروسيا.
وعلى الرغم من أن الخطوة الروسية بالانسحاب من المعاهدة الخاصة بالقوات المسلحة التقليدية في أوروبا لم تكن مفاجئة تمامًا، إلا أن التوقيت الحالي يوجه إشارة قوية إلى الولايات المتحدة وبلدان أوروبا، بأن تعيد النظر في دعمها لأوكرانيا، وزيادة الإنتاج الصناعي العسكري وأعداد الجيوش.
وتُنذر الخطوة الروسية باحتمال نشرها صواريخ هجومية، كما أنه من غير المستبعد أن الإعلان الروسي جاء من أجل فتح الباب أمام مفاوضات مع الولايات المتحدة لإيجاد حلول لضمان التوازن الاستراتيجي في العالم، وفي الوقت ذاته فتح المجال أمام الوصول إلى صفقة شاملة تتضمن حلًا للحرب في أوكرانيا، خصوصًا أن الانسحاب من معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا، جاء بعد تعليق روسيا مشاركتها في اتفاقية “ستارت 3” في فبراير الماضي، وقبلها انسحابها من اتفاقية الأجواء المفتوحة مع الولايات المتحدة والأطلسي.
ما رد حلف الناتو على القرار الروسي؟
من جهته، رد حلف الناتو بخطط جديدة للدفاع عن أراضي دوله الأعضاء حيث أعلن كريستوفر كافولي، القائد العام لقوات الحلف، أن الحلف يطور خططا عسكرية جديدة واسعة النطاق للدفاع عن كل شبر من أراضي دوله.
· كافولي، تحدث خلال مؤتمر صحفي عقب اجتماع اللجنة العسكرية للحلف، عن أن “الوقائع السياسية الجديدة تتطلب إعادة توجيه مهام الحلف من عمليات إدارة الأزمات خارج منطقة مسؤولية الناتو إلى العمليات العسكرية واسعة النطاق، للدفاع عن كل شبر من أراضيه”.
· خطط الحلف الإقليمية الجديدة ذات مرجعية جغرافية، وهي موجهة لحماية مناطق محددة تابعة لدول الحلف، ونسعى إلى تحسين قدرتنا على نشر قواتنا في المكان والزمان المناسبين، وفق كافولي.
· رئيس اللجنة العسكرية لحلف “الناتو” الأميرال روب باور، أكد أن الخطط العسكرية الجديدة للحلف “ستتطلب نشر قوات جديدة بدرجة جاهزية عالية”.
خاتم:
ينذر رد فعل حلف الناتو على قرار روسيا بانسحابها من معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا، بالتحذير من إطلاق سباق تسلح جديد ورفع مستوى التوتر في نقاط الاحتكاك بين روسيا والأطلسي. ومن جانبه، رد الحلف بخطط جديدة للدفاع عن أراضي دوله الأعضاء، إلى جانب تطوير خطط عسكرية جديدة واسعة النطاق للدفاع عن كل شبر من أراضي الدول الأعضاء في الحلف.
وعلى الرغم من أن التوترات بين روسيا والأطلسي قد تفاقمت بعد انسحاب روسيا من المعاهدة، إلا أنه من غير المستبعد أن يفتح هذا الإعلان الباب أمام مفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة لإيجاد حلول لضمان التوازن الاستراتيجي في العالم، ولحل الصراع في أوكرانيا. ويتعين على المجتمع الدولي العمل بحزم وتعاون للحد من تفاقم الأزمات الدولية والتوترات الجيوسياسية، والعمل على تعزيز الحوار والتفاهم بين الدول لتحقيق الأمن والاستقرار العالميين.