في شهر رمضان عام 1393 هجرية ـ أتى نصرُُ الله، وتغلبت الجيوش المؤمنة على القوات الإسرائيلية الغاشمة.
وتَحقق وعدُ الله في قولِه -سبحانه وتعالى-:
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)،
لقد تَحقّق نصر الله
بعد سنوات طوال من الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي كان يكسب كل جولة . ذلك لأننا لم نكن نحسن
الصلة بالله -سبحانه وتعالى-، ولم نكن نأخذ بالأسباب الحقيقية للإعداد والاستعداد الجادّ لملاقاة العدو. ولكن عندما غيَّرَنا أحوالنا كما أمرنا الحق -تبارك وتعالى- في قوله الكريم: (إِنَّ
اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وحينما أعددنا
أنفسنا عقائديًا وماديًا إعدادًا جيدًا كتب الله لنا النصر. وهذا هو الطريق الصحيح للنجاح والفوز.
وذلك ببذل كل جهد ممكن، والاعتماد على الله -تبارك وتعالى- وإخلاص النية لله، وطلب مرضاته، هنا تكون
النتيجة الحتمية بالفوز في الدنيا والآخرة، كما قال الحق -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).
لقد كان شعار قواتنا المسلحة في حرب رمضان”أكتوبر”: (الله أكبر)مدويًا في آفاق السماء،
ورجالنا يهاجمون مواقع العدو، فَيَهزُهُم هزًا. ويقذف
الله في قلوب الأعداء الرعب ففروا هاربين. وكان هذا الشعار يقوي عزيمة الرجال، ويبعث فيهم الأمل،
ويعطيهم الثقة بأن العدو مهما كان كبيرًا فإن الله
أكبر. كانت حرب رمضان عام 1393 حربًا مباركة،
وكانت في أيام مباركة من شهر مبارك هو شهر رمضان المُُعظَّم. وهو شهر مفضّل في الإسلام ترفع فيه الأعمال الصالحة، فما بال الجهاد والقتال فيه لنصرة الحق والدفاع عن الحرمات؟.
وقد بدأت المعركة يوم العاشر من رمضان وأُعطي لها الاسم الرمزي “بدر” تيمنًا بمعركة بدر الكبرى التي كانت فاتحة خير على المسلمين، ونصَرَهُم الله -سبحانه وتعالى- بعد أن
كانوا أَذِلَّة. كان المبدأ الإسلامي في القتال وهو
“النصر أو الشهادة” خير دافع لقواتنا للجرأة والشجاعة والتضحية عن عقيدة وإيمان. لذلك احتوت
هذه الحرب على الكثير من قصص البطولة والفداء التي قدمها الضباط والجنود ممن نالوا شرف الشهادة.
خطة الخداع
الخداع من أهم عوامل النصر في المعركة. لذلك اهتمت قواتنا بخداع العدو في حرب رمضان، تمسكًا
بقول الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- حيث قال:
“الحرب خدعة”.
وقد نجحت قواتنا في خداع العدو، وأخذه على حين غرة ومفاجأته بالهجوم؛ سواء في توقيت الهجوم
أو في حجمه. ولم يكن العدو يتوقع قيام قواتنا بالهجوم في شهر رمضان، وهو شهر الصيام لدى
المسلمين، فكان يظنه شهر راحة واسترخاء بالنسبة لقواتنا المسلحة.
وشملت إجراءات الخداع على المستوى الاستراتيجي الإعلان عن إنهاء خدمة عدة آلاف من المجندين إلزاميًا، وكان ذلك موقوفًا منذ حرب يونيو 1967، وإعلان التعبئة لأفراد الاحتياط عدة مرات. كذا الإعلان عن قيام مجموعة من القادة والضباط بالسفر إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة. والحقيقة أنه لم يتم شيء من هذه
الإجراءات، بل كانت فقط لخداع العدو؛ حيث كانت توحي بعدم وجود نية للهجوم.
لقد حققت إجراءات الإخفاء والخداع التي تم
التخطيط لها، وقامت قواتُنَا بتنفيذها نتائج هامة، وكان لها الفضل في تحقيق المفاجأة، وفي امتصاص
مجهود العدو الجوي والبرِّي، والذي ضاع في مهاجمة مواقعنا الخداعية والهيكلية.
ولعل خير دليل على نجاح خطة الخداع التي وضعتها قواتنا أن العدو الإسرائيلي فوجئ مفاجأة تامة بالهجوم المصري السوري الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، وفي وضح النهار. تدمير تحصينات العدو
كان العدو الإسرائيلي قد أقام ساترًا ترابيًا عاليًا على الضفة الشرقية لقناة السويس، وأقام عدة
نقاط حصينة. وقد أطلق العدو على هذا الخط الدفاعي: “خط بارليف” نسبة للقائد الإسرائيلي “حاييم
بارليف”. وخلف الخط الدفاعي الأول أنشأت إسرائيل خطين دفاعيَين آخرَيْن.
وهكذا ظن قادة إسرائيل أنه قد توفر لهم الأمن والأمان، ولكن الله خيّب ظنَّهُم، كما جاء في الآية الكريمة فيمن كانوا قبلهم
(وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ،فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).
لم يكن يخطُر ببال قادة إسرائيل أن العرب يمكنهم تدمير هذا الخط الحصين، بل إن بعض الخبراء
العسكريين بعد دراستهم لتحصينات “خط بارليف”، والمانع المائي الذي أمامه وهو قناة السويس، قالوا: إنه لا يمكن تدميره إلا إذا استخدمت القنبلة الذرية.
وسُبحان الله القويِّ العزيز الذي أضاء بصيرة رجالنا البواسل ليتغلبوا على الساتر الترابي المرتفع الذي كان يعتمد عليه “خَط بارليف” بفكرة بسيطة، وهي استخدام تيار مائي قوي بواسطة طلمبات ميكانيكية لتجريف الرمال وفتح الثغرات في الحائط الترابي. وقد وَفَّق الحق -سبحانه وتعالى- المهندس المصري “باقي زكي”
إلى هذه الفكرة، والتي كان وزملاؤه قد استخدموها من قبل في بناء السد العالي.
ووقف قادة إسرائيل في حيرة وندم بعد أن تدَمَّر هذا الخط الدفاعي الذي تكلف حوالي 200 مليون دولار
في ذلك الوقت، وأخذوا يتلاومون، حتى إن وزير الدفاع “موشى ديان” تبرأ منه، وقال: إن هذا الخط كان
كقطعة الجبن الهشة. وكان من قبل يقول: إن هذا الخط لن يمكن التغلب عليه ولو بعد مائة عام.
إن اقتحام قناة السويس وتدمير “خط بارليف” عمل شجاع حقًا يوضح قدرة الجندي المصري على القتال؛
فقد تحطمت نظرية الأمن الإسرائيلي، وثبت لإسرائيل أن فكرتها عن الحدود الآمنة فكرة خاطئة.
الثبات في المعركة
كان ثبات قواتنا في حرب رمضان واضحًا منذ بداية الحرب حتى نهايتها. وذلك امتثالاً لقول الحق -تبارك وتعالى-
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)،
وليس أدل على ذلك من أن إصابات رجالنا كلهم كانت في الصدور التي واجهوا بها العدو. وعلى العكس من ذلك، عندما رأى أفراد العدو هجوم قواتنا فروا هاربين، تاركين مواقعهم الحصينة، وخزانات اللهب التي أعدوها على الضفة الشرقية لقناة السويس لتشتعل مياه القناة، وتحيلها إلى صفحة من اللهب. والتي لم يجدوا الفرصة لاستخدامها،
وصدق الله العظيم؛ حيث يقول:
(وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ).
وبعد أن فر جنود إسرائيل في الأيام الأولى للقتال، ودارت عليهم الدوائر وصلهم العون الخارجي من أسلحة ودبابات وطائرات، فقاموا بعمل ثغرة على الضفة الغربية للقناة، واتجهوا شمالاً إلى مدينة
“الإسماعيلية” للاستيلاء عليها، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من قوات المدينة الباسلة، فرجعوا
عنها خاسرين.
ثم اتجهوا بعد ذلك جنوبًا في اتجاه مدينة “السويس” الصامدة، ولم يتمكنوا من دخولها، نظرًا لثبات رجال القوات المسلحة وأهالي المدينة في وجه العدو، وقدموا بطولات كثيرة ردت قوات العدو، وعادوا منها مدحورين.
لقد كان ثبات قواتنا في المعركة عن عقيدة إيمانية صادقة امتثالاً لقول الحق -تبارك وتعالى-:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ(.
التعاون:
لعل من أهم الضمانات التي تمت لنجاح المعركة هو تنظيم التعاون مع الجبهة السورية، مما اضطر العدو
للقتال على جبهتين في الزمان والمكان اللذين حددهما الجانب العربي، ووفق الأسلوب القتالي الذي
حدده العرب. وكانت هذه هي أول مرة يضطرّ فيها العدو إلى التخلّي عن أساليبه في القتال، ويعمل في ظروف غير مناسبة له. وكان الجيش الإسرائيلي في الجولات السابقة هو الذي يحدد مكان المعركة وزمانها بعد أن يعد قواته بما يَضْمَن تفوقه ونجاحه في العمليات.
لقد كان قرار الحرب المشترك بين القاهرة ودمشق المفاجأة الاستراتيجية الكبرى في حرب رمضان. وكانت أولى الحقائق المذهلة للعدو في هذه المعركة أن الجبهتين المصرية والسورية فتحتا النار في لحظة واحدة في حين لم يتوقع العدو ذلك.
كذلك أثبتت هذه الحرب فائدة اتحاد المسلمين وترابطهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي. وكان هذا الاتحاد سببًا مباشرًا لقيام موقف عربي موحّد لأول مرة في تاريخ الأمة الحديثة. وساهمت كافة الدول العربية على قدر طاقتها في المعركة؛ سواء بالطائرات أو الدبابات أو المدفعية أو القوات، أو بتقديم الوقود اللازم دون مقابل أو بالأموال. ولذلك لم تحارب مصر وحدها، ولم تقاتل سوريا بمفردها. لقد نالت أمتنا كلها نصرًا كبيرًا رفع الروح المعنوية للشعب. وذلك عندما توحدت كلمتها. وجاء ذلك مصدقًا لقوله تعالى:
)إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ).
وقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي عن ابن عباس:
“يد الله مع الجماعة”
وكان للقرار التاريخي للدول العربية بوقف ضخّ البترول للدول المنحازة إلى إسرائيل كبير الأثر في تفجّر أزمة الطاقة في أوروبا، وأدرك الأوروبيون عاقبة مساندة المعتدين.
العقيدة أولاً
لقد أدرك قادة قواتنا أهمية العقيدة والإيمان. وتولد عن هذا الإيمان العميق روح معنوية عالية تعد
من أعظم الأسلحة التي في يد القائد بفضل ما تضع في نفوس الرجال من صبر وعزيمة وفداء.
كانت الروح المعنوية العالية لقواتنا هي السلاح الرهيب الذي أدهش العدو؛ حيث وجد رجالاً يقذفون بأنفسهم إلى الموت، ويستهينون بالنار طلبًا للنصر أو الشهادة.
وكان إيمان القادة والجنود جميعًا بالله -سبحانه وتعالى- ناصر الحق وهازم المعتدي هو خير دافع لهم للقتال ومواجهة العدو. وكان إيمانهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها أكبر حافز لهم على الصبر عند لقاء العدو.
إن كل هذه المعاني والقيم كانت تولِّد في الضباط والجنود طاقات هائلة لا يمكن وصفها أو تحديدها،
فانقلب الرجل منهم يقاتل بعشرة رجال في إسْتِبسال منقطع النظير. وكانت صيحاتهم المدوية “الله أكبر” تُزلزل الأرض من تحت أقدام العدو. فكانت هذه الصيحة طلبًا للمدد من الحق -سبحانه وتعالى- فكتب لهم النصر. وحقق الله أمنيتهم بعد أن قدَّموا من العمل الجاد المخلص ما يستحقون عليه النصر وذلك مصداقًا لقوله تعالى:
(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
كان جنودنا ينظرون دائمًا إلى الأمام إلى أرضهم السليبة يريدون استرجاعها، وكانوا ينظرون إلى العدو يريدون الثأر منه، ويريدون هزيمته وتدميره.
وكان للنصر الذي حققته قواتنا في الأيام الأولى للقتال تأثير عميق على قواتنا في رفع روحها
المعنوية.
ومن جهة أخرى فقدت القوات الإسرائيلية في الأيام الأولى للقتال معظم دفاعاتها على القناة ونسبة كبيرة من قواتها وأسلحتها، مما أثّر على روحها المعنوية، وجعلها تميل إلى الانسحاب والفرار. ووقَع في أيدي قواتنا عدد كبير من الأسرى؛ الأمر الذي لم يحدث في الجولات السابقة مع إسرائيل.
خاتمة
إن نصر العاشر من رمضان لم يكن من قبيل المصادفة، إنما هو ثمرة عوامل كثيرة أولها: الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله -سبحانه وتعالى. فكان التخطيط الدقيق، والتدريب الشاق، والإعداد الكامل، والتنسيق الشامل على كافة المستويات. وقد توّج كل هذا بقلوب عامرة بالإيمان بالله -سبحانه-، وقوله تعالى:
(وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)،
وهكذا نجد أن طريق النصر هو تقوية الصلة بالله -جل جلاله-، حتى يؤيدنا ويقف بجانبنا. أما القوات التي تبتعد عن الله فإنه يتركها لعدوها قوة أمام قوة وسلاحًا في مواجهة سلاح، ويتحكم في الصراع العوامل المادية فحسب.
إن حرب “رمضان” التي اتخذت شعارًا لها “الله أكبر” كانت حربًا عادلة تهدف إلى مقاومة الظلم والعدوان الإسرائيلي قام بها رجال مَلَأَ الإيمان قلوبهم.وفي الختام نقول: إن حرب رمضان 1393 (أكتوبر 1973 ) كانت نصرًا من عند الله -سبحانه وتعالى- وتمكينًا لنا في الأرض. وكان واجبًا علينا قبل ذلك وبعده أن ننفذ أوامر الحق -جل جلاله- في قوله الكريم :
(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)