في الثالث والعشرين من أبريل 2007 توفي ، بوريس يلتسين ، أول رئيس لروسيا الاتحادية واحد ابرز رموز التغيير الذين ساهموا في اسقاط النظام الشيوعي فيما كان مع رئيسي اوكرانيا وبيلاروس اول من ساهم عمليا في انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991.
كان بوريس يلتسين قد اكتسب شهرته الطاغية مع ميخائيل جورباتشوف الذي جاء به من مقاطعة سفيردلوفسك في الاورال وكان يشغل منصب السكرتير الاول للجنة الحزب هناك.
و معه صنع اسطورة البيريسترويكا، ومن خلاله تقدم الى انتخابات القيادة الحزبية للعاصمة التي فاز بها بمباركة كل اعضاء المكتب السياسي، لكنه عاد وانقلب عليه حين اعلن في عام 1987 احتجاجه على سياساته متهما اياه بالعجز عن ملاحقة وتيرة التاريخ وبانه يتعمد ابطاء وتيرة البيريسترويكا ما كان سببا في طرده من عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي. غير ان يلتسين عاد وتزعم الحملة ضد الفساد الحزبي والبيروقراطي ليفوز في اول انتخابات ديموقراطية جرت لانتخاب نواب الشعب عن العاصمة في مطلع عام 1989. ومن اروقة المؤتمر الذي بدأ اعماله في مايو 1989 اختاره الرفاق ليتزعم مع المنشق السوفييتي اندريه ساخاروف واناتولي سوبتشاك من لينينجراد مجموعة نواب الاقاليم الديموقراطيين التي وقفت لاحقا في صدارة المؤيدين لحركات التمرد ضد جورباتشوف ودعمت الكثير من الحركات الانفصالية وفي مقدمتها انفصال بلدان البلطيق الثلاث ـ استونيا ولاتفيا وليتوانيا ـ في يناير 1991. وكان الجدل بين الغريمين جورباتشوف ويلتسين قد احتدم حول قضايا رئيسية ثلاث اولها شكل الاتحاد السوفييتي ووضعيته كدولة فيدرالية متعددة القوميات، وثانيها: طرق ومعدلات التحول الى اقتصاد السوق، واخيرا اشكال واطر السلطتين التنفيذية والتشريعية. ورغم نتائج الاستفتاء الشعبي في مطلع عام 1991 الذي اقر موافقة ما يزيد عن 70% على بقاء الاتحاد السوفييتي دولة موحدة.
قاد يلتسين من موقعه كرئيس لمجلس السوفييت الاعلى لروسيا الاتحادية مسيرة الاستقلال ليعلن في يونيو 1990 وثيقة استقلال وسيادة روسيا الاتحادية التي كانت في مقدمة اسباب ما صار يسمى باستعراضات السيادة والاستقلال التي طالت جمهوريات تدخل ضمن روسيا الاتحادية مثل الشيشان ما كان في مقدمة اسباب انقلاب الرفاق الشيوعيين على زعيمهم ميخائيل جورباتشوف في اغسطس 1991 للاطاحة به بعد اعتقاله في منتجع «فوروس».
ومضى يلتسين ليواصل مسيرة تحدي السلطة السوفييتية معلنا تنصيب نفسه قائدا اعلى للقوات المسلحة السوفييتية وقائما بأعمال الرئيس منتزعا حق اصدار المراسيم السيادية ما كان في مقدمة اسباب توالي اعلان مراسيم استقلال وسيادة الكثير من الجمهوريات الفيدرالية، في الوقت الذي انحسرت فيه الاضواء عن خصمه وغريمه جورباتشوف الذي استكان للامر الواقع معترفا بضرورة التنحي عن السلطة في 25 ديسمبر 1991 في اعقاب اتفاقيات بيلوفيجسكايا بوشا بين رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروس التي انسحبت بموجبها الجمهوريات الثلاث من الاتحاد السوفييتي لتعقبها بقية الجمهوريات في 21 من ديسمبر في المآتا.
وبهذا الصدد قال جورباتشوف: «ان انقلابيي اغسطس اعقبهم انقلابيو ديسمبر، وان بوريس يلتسين يتحمل كامل المسؤولية بوصفه رئيس اكبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي». اعترف جورباتشوف بفشل محاولاته التي كانت تستهدف صياغة معاهدة اتحادية جديدة لم تكن في اكثر جوانبها سوى محاولة لتقليص صلاحيات غريمه يلتسين من خلال اكساب الجمهوريات ذات الحكم الذاتي في روسيا الاتحادية للوضعية الفيدرالية خصما من رصيد روسيا السياسي والاقتصادي في الوقت الذي كانت فيه هذه الجمهوريات البالغ عددها 16 جمهورية تشغل ما يزيد عن 51% من مساحة اراضي روسيا وتملك قرابة ثلثي ثرواتها من النفط والغاز وغيرهما من مصادر الثروة الطبيعية.
ويذكر التاريخ ما قاله يلتسين في قازان عاصمة تتارستان التي زارها في اطار جولاته التي حاول من خلالها ان يخطب ود هذه الجمهوريات: «خذوا من الاستقلال ما تستطيعون ان تبتلعوه». وهو ما دفع القوميين الشيشان الى الاستفادة منه بموافقة ومباركة يلتسين الذي وقف وراء هجوم الجنرال جوهر دودايف وانصاره ضد مقر البرلمان الشيشاني والاطاحة بقيادته الشيوعية التي باركت انقلاب اغسطس 1991. ويذكر التاريخ زيارات مساعدي يلتسين لجروزني ولقاءاتهم مع القيادات الشيشانية ودعمهم لما كان يسمى بالصحوة القومية والدينية التي شهدتها مختلف الجمهوريات السوفييتية في اعقاب الاعلان عن سياسات البيريسترويكا في منتصف الثمانينيات. ومع تزايد حدة النزاعات القومية في ظل ضعف النظام الذي وقع فريسة مطامع اثرياء روسيا الجدد ممن استولوا على ثروات روسيا الطبيعية من نفط وغاز ومعادن من خلال سياسات الخصخصة سيئة الصيت.
صار اغراق بوريس يلتسين في الشراب مثار تندر الكثيرين من رفاقه الذين عادوا وانقلبوا عليه مثل الكسندر روتسكوي نائب الرئيس وروسلان حسب اللاتوف رئيس السوفييت الاعلى اللذين قادا حملة التمرد ضده في سبتمبر 1993 والذي انتهى بقصف مقر السوفييت الاعلى في الرابع من اكتوبر 1993 بالدبابات بمباركة وتأييد كل العواصم الغربية التي طالما تنادي باحترام الديموقراطية ورموزها.
غير ان تغذية الكرملين للتيارات القومية لم تكن لتسفر سوى عن المزيد من النزعات الانفصالية التي اكتوى بنيرانها مع نهاية عام 1994 في الشيشان والتي كانت مقدمة للحرب الشيشانية الاولى 1994ـ1996 . وفيما انتهت هذه الحرب بهزيمة عسكرية مهينة وتداعي اركان النظام في ظل اشتداد وطأة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الرشوة وفساد الجهاز الاداري، الى جانب التفريط في الكثير من مواقع الدولة العظمى التي وقعت فريسة مطامع الدوائر الغربية صاحبة المصلحة الاولى في استمرار هذا النظام. وجند اركان ما سمي بالاوليجاركيا اناتولي تشوبايس صاحب سياسات الخصخصة لقيادة الحملة الانتخابية لبوريس يلتسين لفترة ولاية ثانية وهو الذي كان وراء مشروع اصدار «صكوك الخصخصة» التي جرى توزيعها على ما يقرب من مائة وأربعين مليونا من ابناء الدولة الروسية لضمان مساهمتهم في شراء المؤسسات الحكومية المعروضة للبيع.وتحمس يلتسين الى هذا المشروع. قال: «اننا في حاجة الى ظهور الملايين من الملاّك وليس الى حفنة محدودة من المليونيرات». لكن النتيجة لم تتعد قيام هذه الحفنة المحدودة بجمع هذه الصكوك واحيانا لقاء بعض زجاجات من الفودكا نظرا للغموض المتعمد لخطة تشوبايس وصحبه وعدم قدرة الملايين على المضاربة في بورصة الاوراق المالية رهانا على المؤسسات التي يمكن المشاركة فيها في الوقت الذي ظهر فيه المضاربون ممن استولوا على هذه الصكوك لينتهي الحال بكل مؤسسات الدولة الى الوقوع في براثن تلك الحفنة المحدودة من المليونيرات التي سبق وحذر يلتسين منها. وكانت الاسعار الحقيقية لهذه الصكوك قد ذابت بنسبة 95% مع ارتفاع نسبة التضخم وانخفاض قيمة الروبل مع نهاية عام 1993. وكان ذلك يعني انخفاض القيمة الاجمالية لكل ثروات الدولة الروسية من مؤسسات صناعية وثروات طبيعية الى ما قيمته خمسة مليارات دولار فقط وهي التي قٌدرت بأثمان مبالغ في ضآلتها بما قيمته مائة مليار دولار فقط أي بقيمة ثروات دول لا تملك نسبة تقل عن واحد في المائة من ثروات روسيا مثل المكسيك وهونج كونج التي قٌدرت ثرواتها آنذاك بقيمة 150 و300 مليار دولار حسب تقديرات مصادر غربية! وما ان فاز يلتسين بفترة ولاية ثانية وامتلك زمام الكرملين بمساعدة من كانوا يسمون بـ«العائلة» نسبة الى انضمام ابنته تاتانيا اليهم ، حتى عاد الى الاغراق في الشراب الذي ساهم في تعميق جراحه وأزماته الصحية وبات ثانية في امس الحاجة الى من يضمن له تقاعده في مأمن من احتمالات ملاحقات الشيوعيين ليعثر في النهاية على ضالته وبمساعدة «العائلة» في شخص فلاديمير بوتين الصموت الغامض الذي خرج من معطف لجنة امن الدولة (كي جي بي) ليعرض عليه خلافته مقابل ضمان مستقبله وأفراد عائلته الى جانب الكثير من الامتيازات المادية. وقبل بوتين بالصفقة التي جرى تنفيذها على مراحل بدأت بتوليه رئاسة الحكومة وتعميده من خلال الحرب الشيشانية الثانية في النصف الثاني من عام 1999 الذي انتهى بإعلان الرئيس يلتسين استقالته وتكليفه بوتين للقيام بأعمال الرئيس حتى انتخابه في 2000 رئيسا للدولة الروسية. وعلى الرغم من تعمد الاعلان عن الكثير من لقاءات الرئيسين السابق والحالي وما تتسم به من طابع ودي حميمي فقد سجلت السنوات التي اعقبت استقالة يلتسين اتساع الهوة بين ما كانت عليه روسيا في عهده وما اصبحت عليه في عهد بوتين الى جانب تباين الكثير من وجهات النظر تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية.
ركزت عناوين الصحف البريطانية الصادرة صباح يوم وفاة الرئيس الروسي بوريس يلتسين معلقة على ما كان له من مناقب ومثالب أثرت بشكل أو بآخر في السياسة الروسية الخارجية والداخلية،
بوريس يلتسين أثبت أنه كان أكثر فعالية كمفسد للاتحاد السوفييتي منه كمصلح للديمقراطية الروسية
فعلقت صحيفة ذي جارديان في افتتاحيتها على وفاة الرئيس يلتسين بأن حياته السياسية كانت مليئة بالمعاناة التي مازالت تتجرعها روسيا حتى الآن رغم البداية الخاطفة التي جعلت منه بطل الديمقراطية الوليدة في روسيا.
وأشارت إلى الخطأ الفادح الذي ارتكبه يلتسين بإرسال رتل من الدبابات إلى جروزني لسحق الانفصاليين والدخول في حرب وحشية في الشيشان, وسحق الديمقراطية الليبرالية في روسيا.
أما عن التأييد الغربي له، فقد كان له أثره الكبير في زرع بذور الاستبداد الروسي في المنطقة.
ورأت الصحيفة أن روسيا يلتسين وروسيا فلاديمير بوتين صورتان معكوستان وأن إخفاقنا في رؤية الصلة بينهما مازالت تشوش علاقات بريطانيا مع موسكو. وانتهت إلى أن بوريس يلتسين أثبت أنه كان أكثر فعالية كمفسد للاتحاد السوفييتي منه كمصلح للديمقراطية الروسية.