
منذ نحو 90 عاما، وبالتحديد في أكتوبر من عام 1929، شهد العالم أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، وعرفت لاحقا باسم «الكساد الكبير».
وقد سبقت هذه الأزمة إرهاصات وملابسات تشبه إلى حدٍ كبير تلك التي نشهدها حاليا مع استمرار انتشارجائحة «كورونا».
نعم هناك تشابه واضح ، فالكساد الكبير سبقه بنحو 10 سنوات انتشار ماعرف بـ فيروس الأنفلونزا الإسبانية، واليوم يشهد العالم حالة من تراجع النمو وحركة التجارة العالمية والإغلاق بسبب استمرار أزمة كورونا، كما أن كثيرا من المعالجات الاقتصادية التي تم اتخاذها لتفادي تداعيات الكساد الكبير، تشبه إلى حد كبير تلك التي تم اتخاذها لاحتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية التي خلفها فيروس كورونا!
مع تشابه الظروف بين الأنفلونزا الإسبانية وفيروس كورونا، اللذين حصدا أرواح الملايين حول العالم، نجد أنفسنا أمام سؤال غاية في الأهمية، وهو: هل مع استمرار انتشار «كورونا» وتحوره، سينجر العالم إلى ثاني أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث؟ أو بمعنى آخر: هل يقف العالم على أعتاب «الكساد الكبير الثاني»؟
لا شيء مؤكد في عالم الأرقام والإحصاء هذه المرة، فالمعادلة بيد أطراف دولية كبيرة، ولاعبين من مجالات مختلفة، طبية واقتصادية، وتغير رقم في المعادلة من أي جهة يغير جميع النتائج والحسابات، لكن المؤكد أن أزمة الكساد الكبير كان قد سبقها بنحو 10 سنوات انتشار الأنفلونزا الإسبانية التي حصدت أرواح أكثر من 80 مليون إنسان حول العالم. ووقع العالم في قبضة مأساة صحية لم تفرق بين كبير أو صغير، وغني أو فقير، وبين دول متقدمة وأخرى نامية، الجميع في قبضة الفيروس.
خسائر الاقتصاد العالمي اليوم
وبرغم ظهور العديد من اللقاحات لفيروس كورونا إلا أن السيطرة عليه تبدو بعيدة المنال في الوقت القريب، وبدأ العالم في نزيف خسائر مستمرة منذ ما ييزيد عن العام بسبب فيروس كورونا، وأسفر عن خسائر في الاقتصاد العالمي اليوم قدرها صندوق النقد الدولي بنحو 28 تريليون دولار، نتيجة الإغلاق العام حول العالم بما في ذلك القطاعان الصناعي والخدمي، وحالة الذعر لدى المستهلكين وقيود السفر والسياحة، فضلاً عن القفزة في الإنفاق الحكومي على خدمات الرعاية الصحية.
وكان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية قد توقع أن تخسر أغلب اقتصادات العالم حوالي 2.4% من ناتجها المحلي، وانكماش الاقتصاد بنسبة 4% هذا العام، وتراجع حجم التجارة العالمي بنسبة 20%، وانخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 40%، وتراجع التحويلات بمقدار 100 مليار دولار، وذلك خلال عام 2020.
الأضرار شديدة بالفعل، ففي غضون الأسابيع الخمسة الممتدة بين منتصف فبراير ومنتصف مارس 2020 فقدت أسواق الأسهم في مجموعة الدول السبع الكبرى 33% من قيمتها، وذلك بالمقارنة مع انخفاض قدره 19% فقط خلال الأسابيع الأربعة التالية لانهيار بنك الاستثمار الأمريكى “ليمان براذرز” في 15 سبتمبر 2008، إبان الأزمة الاقتصادية التي وقعت في ذلك العام وعرفت باسم أزمة الرهن العقارى.حتى إن اقتصاديات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية – الأكثر تضرراً اقتصادياً بفعل الجائحة – شهدت ارتفاع مستويات ديونها عما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية، وهو ما يجعلها أكثر عرضةً للضغوط المالية.
عودة إلى السؤال السابق، هل يمكن أن يتسبب فيروس كورونا في أزمة اقتصادية تكون الأسوأ على الاقتصاد العالمي بعد الكساد الكبير؟ الإجابة من منطلق الاستنتاج والمقارنة تقول: إنه مع استمرار تحور فيروس كورونا وانتشاره، سيصبح العالم على أعتاب أزمة اقتصادية يمكننا أن نطلق عليها “الكساد الكبير الثاني”.
ومن منطلق الاستدلال دعونا نعود إلى تفاصيل وتداعيات أزمة الكساد الكبير في 1929، فحقا “التاريخ يعيد نفسه”، فقط علينا أن نركز في التفاصيل لنتعلم منه، حتى نتفادى ما يلوح في الأفق من أزمة اقتصادية كبيرة.
بدأ الكساد الكبير في 24 أكتوبر عام 1929 الذي عرف لاحقًا بـ “الخميس الأسود”، كان بداية تفجير الأزمة، حين طرح المستثمرون 13 مليون سهم للبيع دون أن يجدوا مشترين مهتمين، ما تسبب في إفلاس الآلاف وفقدان مؤشر “داو جونز” الأمريكى 89% من قيمته. اتسعت أصداء الخسائر خارج نطاق البورصة ومستثمريها، لتجتاح حالة الكساد كافة جوانب المجتمع والاقتصاد الأمريكي، بخسائر قدرت وقتها بنحو 30 مليار دولار، فأُغلقت المصانع وسرح العمال وتوقف الإنتاج.كما ارتفع معدل البطالة من 3.2% إلى 25% من إجمالى القوى العاملة في البلاد في عام 1933، تبع ذلك انخفاض في الأجور بنسبة 42%، وهبوط في الناتج المحلي الإجمالي من 103 مليارات دولار إلى 55 ملياراً فقط.
خفض سعر الفائدة
يرى المؤرخون وخبراء الاقتصاد أن سبب استمرار الأزمة كان السياسات الخاطئة التي انتهجها مجلس الاحتياطي الفيدرالي فيما يتعلق بإدارة إمدادات النقود والائتمان قبل وبعد الأزمة، حيث شهدت الولايات المتحدة نمواً في إجمالي المعروض النقدى بنحو 61.8% بين عامى 1921 و1928، وارتفعت الودائع المصرفية بنسبة 51.1%، وزادت المدخرات بنسبة 224.3%، وقفز صافي احتياطيات التأمين على الحياة بنسبة 113.8%. كما أُبْقيَ في الوقت نفسه على أسعار فائدة منخفضة، اضطرت أصحاب الأموال إلى توجيه استثماراتهم في الأسهم والعقارات بدلاً من الاحتفاظ بها في المصارف بدون أي فرصة للربح، وهو ما يفسر ما حدث من انهيار البورصة الأمريكية.
فى فترة التعافي بعد الأزمة، أيضاً أساء الفيدرالي التصرف بخفضه المعروض النقدي بمقدار الثلث، ليحدث أزمة سيولة حادة لدى العديد من البنوك الصغيرة وتقويض جهود التعافي السريع. وأقرت الولايات المتحدة مجموعة من الإجراءات والقوانين التي تمنع المصارف من التعامل بالأوراق المالية، وتعيد فتح المصارف غير المفلسة وتمنع التلاعب بالأوراق المالية. وبدأ تعافي الاقتصاد الأمريكي تدريجياً بعد 10 سنوات، حتى تلاشت تبعاته تماماً في الفترة ما بين 1941 و1942، بالتزامن مع دخولها الحرب العالمية الثانية.
على الصعيد العالمي، تأثرت جميع دول العالم بالأزمة، الفقيرة منها والغنية، التجارة العالمية لم تفلت هي الأخرى من الكساد العظيم، حيث تراجعت بنسبة 65% بحسب قيمتها الدولارية في ذلك الوقت. كما تضرر القطاعان الصناعي والزراعي، وانخفض متوسط دخل الفرد، فيما ارتفعت الضرائب، ولم تجد البنوك الأمريكية أمامها سوى السحب من بنوك في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، ما أدى إلى انتقال الأزمة إلى أوروبا لتصبح الأزمة عالمية.
التاريخ يعيد نفسه
من الملاحظ أن كثيرا من السيناريوهات التي تم اتخاذها لمواجهة الكساد الكبير تتبعها الكثير من الدول، ويجعل المثل القائل بأن “التاريخ يعيد نفسه” عالقا في الأذهان، خوفا من وقوع “الكساد الكبير الثانى” ربما سيطل بوجهه قريبا نظرا لتشابه سيناريوهات احتواء أزمة الكساد الكبير بنظيرتها التدعيات الإقتصادية في أزمة انتشار فيروس كورونا.
وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن الأضرار طويلة الأجل لجائحة كورونا ستكون شديدة للغاية على الاقتصادات التي تعاني أزمات مالية، وفي البلدان المصدرة لمنتجات الطاقة بسبب انهيار أسعار النفط. وفي المتوسط أيضا في فئة اقتصاديات الدول ذات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، وقد تؤدي تلك الأضرار إلى كساد كبير تصاحبه أزمة مالية وانخفاض الناتج المحتمل نحو 8%، أما في البلدان المصدرة للطاقة من بين هذه الفئة، ففي المتوسط قد يؤدي كساد يصاحبه انهيار أسعار النفط إلى انخفاض الناتج المحتمل بنسبة 11%.ومن المتوقع أيضاً أن تؤدي الجائحة إلى خنق معدل نمو الإنتاجية الذي كان ضعيفا خلال الأعوام العشرة الماضية.
وبالعودة إلى ما حدث في الأوبئة السابقة، نجد أنه صاحبها انخفاض في معدل إنتاجية الأيدى العاملة بنسبة 6%، وتراجع معدلات الاستثمار بنسبة 11% بعد مرور 5 أعوام في البلدان المتضررة.
سيناريوهان متناقضان
حسبما يتوقع المحللون يتبقى أمام العالم سيناريوهان، الأول في حالة السيطرة على عملية تحور الفيروس بفضل اللقاحات الجديدة التي بدأ تطعيم الناس بها في عدد من دول العالم، وبذلك ستكون عملية تعافي الاقتصاد أسرع مع توقعات صندوق النقد بنمو الاقتصاد العالمي خلال 2021 بنحو 5%، وما سيتبع ذلك من ارتفاع في الطلب الاستهلاكي نتيجة انفتاح شهية المشترين بعد أكثر من عام من التقشف والإغلاقات.أما السيناريو الثاني، وهو الأكثر قتامة، فيتمثل في مواجهة صعوبات في القدرة على السيطرة على كورونا وظهور مزيد من السلالات، وسيعني ذلك انضمام دول جديدة إلى الإغلاق العام والعودة إلى ذروة تفشي الفيروس في 2020 ، ويتأكد حدوث أزمة الكساد الكبير الثاني، خاصة وأن الاقتصاد العالمي بالفعل أصبح منهكاً جراء أكثر من عام كامل من الخسائر المتواصلة في جميع القطاعات.
فهل يمكن للمعالجات الاقتصادية المختلفة للأزمة الحالية أن تمنع التاريخ من أن يعيد نفسه ؟… ربما!.
نقلا عن : بوابة أخبار اليوم
نقلا عن: بوابة أخبار اليوم