
كان عام 2020 ، بكل المقاييس عاما مروعا، حيث انتشرت خلاله حالات الموت والاضطراب في جميع أنحاء العالم، ولكن إذا كان هذا يمثل تحديا حقيقيا لايمكن إنكاره في الوقت الحالي، فكيف قد يبدو للمؤرخين إذا نظروا إلى الوراء لنصف قرن من الآن؟
قال هال براندز الحاصل على درجة الدكتوراة من جامعة ييل الأمريكية في تقرير نشرته وكالة بلومبرج للأنباء “سوف نتذكر الحرب العالمية الثانية على نحو مختلف كثيرا، على سبيل المثال، لو كانت أمريكا قد انسحبت ببساطة من العالم وانكفأت على نفسها بعد انتهاء ذلك الصراع ، بدلاً من المشاركة على نحو دؤوب بلا كلل لتشكيل النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب.
ومع ذلك ، فمن المؤكد أن أحداث عام 2020 سوف تلقي بظلالها على الجهود المستقبلية لتتبع مسار أحداث القرن الحادي والعشرين، الذي ربما يكون العام الذي بدأ فيه النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ينهار، أو ربما يكون العام الذي شهد بعث حياة جديدة، بحسب براندز.
ومن السهل تخيل الطريقة التي سوف ينظر بها المؤرخون في يوم ما لعام 2020 على أنه بمثابة بداية لعصر مظلم جديد. ففي غضون بضعة أشهر، تسببت صدمات استراتيجية تحدث مرة كل قرن، في ترنح العالم في مساره.
وأودت جائحة كورونا بحياة الملايين وأصابت بالجمود مجتمعات في عدة قارات، وشهد العالم انهيارا قويا للعولمة من خلال إغلاق الحدود وتوقف السفر فعليا، بينما عجزت الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبري، عن تقديم الكفاءة التكنوقراطية وتحقيق التعاون العالمي.
وعلى الجبهة الجيوسياسية، شنت الصين، الدولة رائدة الاستبداد في العالم، هجوماً على عدة جبهات مما يثبت أنها لم تعد قنوعة بإخفاء قدراتها وتتربص لاقتناص الفرص لتحقيق مكاسب ،كما أوصى بذلك الرئيس الصيني دنج شياو بينج في الفترة من 1978وحتى 1992، كما خاضت عددا من الحروب الاقتصادية أبرزها مع واشنطن.
إضافة إلى ذلك ، فإن ما جعل عام 2020 صادما بشدة هو أنه جاء عقب عقد مؤلم للغاية، حيث تراجعت الديمقراطية عن موقع صدارة مشهد حقبة ما بعد الحرب الباردة، وشهدت تراجعا في عدة أماكن.
وقال براندز إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وارتفاع الشعبوية شكل تهديدا للتكامل الأوروبي، وهو أحد المحاولات البارزة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وتابع أن العولمة واجهت رياحا عاتية في المشهدين السياسي والجيوسياسي، حيث اصاب الجمود منظمة التجارة العالمية، وزاد صعود الصين الاقتصادي على نحو ينذر بمزيد من الشؤم، وأصبحت أمريكا مؤيدة على نحو يكتنفه الغموض للتجارة الحرة.
فمن هذا المنظور، ووفقا لبراندز، فإن الصدمات التي تسبب فيها عام 2020 لم تكن مجرد صدمات غير متوقعة. كانت أزمات كشفت انتشار العفن داخل المؤسسات والترتيبات التي اسست النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
وحقبة سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، بدت في كثير من الأحيان وكأنها نهاية المطاف بالنسبة للقوة الأمريكية واقتصاد العالم الحر، وسط صدمات النفط، ونهاية نظام بريتون وودز المالي ، وانتكاسات جيوسياسية كانت بمثابة عقاب. ومع ذلك، أدت الأزمات إلى الارتقاء وليس إلى السقوط.
وشنت الولايات المتحدة بسرعة هجوما جيوسياسيا مضادا مدمرا ضد الاتحاد السوفيتي الذي كان متمددا على نحو مفرط ، وتعاونت مع الحلفاء الرئيسيين لإنشاء مؤسسات جديدة (مثل مجموعة السبع) لتسهيل التحول إلى نظام أكثر عولمة، وتبنت الدول عبر الغرب إصلاحات مؤيدة للسوق أدت إلى ازدهار متجدد.
ووفقا لبراندز”كنتيجة لذلك ، فإننا ننظر الآن إلى عام 1979 ، وهو العام المروع الذي شهد اندلاع الثورة الإيرانية، والغزو السوفيتي لأفغانستان ، وركودا عالميا كان بمثابة عقاب، على أنه إن كان بمثابة بداية جديدة للنفوذ الأمريكي. ربما سيكون عام 2020 لحظة ميلاد عصر جديد”.
وكان هذا العام بعد كل شيء، هو العام الذي قام فيه النظام السياسي الأمريكي بتصحيح نفسه بعد مغازلة خطيرة مع الشعبوية شبه الاستبدادية لتيار اليمين، بينما رفض أيضا شعبوية اليسار التي تزعزع الاستقرار.
وشهد هذا العام جهودا، بقيادة الحلفاء الأمريكيين، لبدء إصلاح المنظمات الدولية المحتضرة ووضع آليات جديدة – مثل توسيع مجموعة السبع – من اجل تحقيق تعاون ديمقراطي أعمق وأوسع نطاقا.
وأوضح براندز أنه ظهر أيضا حذر جديد من القوة الصينية، ليس في أمريكا فحسب، ولكن في أوروبا والديمقراطيات المتقدمة الأخرى أيضا، ولم تنته حقبة ترامب فقط بقطيعة عبر المحيط الأطلسي بسبب الصين، ولكن بمناقشات أولية تتعلق بكيفية التعاون بشكل وثيق لمواجهة التهديد الذي تشكله بكين.
كما أدى مرض كوفيد -19،الذي يسببه فيروس كورونا المستجد، إلى تسريع وتيرة الجهود للتحول إلى نمط أكثر ذكاءً للعولمة من منظور جيوسياسي، وهو نمط لا تسعى فيه الدول الديمقراطية إلى إعادة عمليات الإنتاج التي كانت قد نقلتها للخارج إلى اراضيها ولكن ببساطة إلى اخراج سلاسل الإمداد الهامة من الأنظمة الاستبدادية المعادية المحتملة.وقال براندز”لا يمكننا حتى الآن معرفة المسار الذي سيتخذه العالم بالفعل. والتاريخ يتضمن احتمالات ، حيث كان من الممكن أن يؤدي تغيير نحو 45 ألف صوت في أربع ولايات إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب ، مما يدفع الديمقراطية الأمريكيةوالسياسة الخارجية إلى مسار مختلف تماما عن المسار الذي ربما يسيران فيها إبان عهد الرئيس المنتخب جو بايدن”.
وإختتم براندز قائلا: “سواء كان خيرًا او شرًا، سننظر إلى عام 2020 باعتباره مرحلة مفصلية في التاريخ، فهو العام الذي أرسل موجات صدمة من خلال النظام القائم، وبالتالي غير شكل العالم على المدى الطويل، وهذه الأزمات الشديدة يمكن أن تدفع النظام العالمي نحو الدمار أو التجديد – لكنها بالكاد يمكن أن تفشل في ترك بصمة دائمة.
البروفيسور هال براندز هو مؤرخ أمريكي حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة ييل الأمريكية ويعمل أستاذا لكرسي هنري كيسنجر للشئون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية